الدواء في مرمى النيران.. كيف قاد القتال ونقص التمويل إلى شلل الخدمات الطبية في الكونغو الديمقراطية؟

الدواء في مرمى النيران.. كيف قاد القتال ونقص التمويل إلى شلل الخدمات الطبية في الكونغو الديمقراطية؟
عضو فريق الصليب الأحمر مع سيدة كونغولية

تتعمق الكارثة الصحية في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية مع إعلان اللجنة الدولية للصليب الأحمر الأربعاء أن أكثر من 200 مرفق صحي في الإقليمين الشرقيين -نورث كيفو وساوث كيفو- تعاني من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية الأساسية.

ويأتي هذا التحذير في وقت تتواصل فيه المعارك العنيفة بين القوات الحكومية ومتمردي حركة "إم 23" المدعومة من رواندا، ما جعل الوصول إلى المساعدات الإنسانية شبه مستحيل، وأعاد إلى الواجهة مأساة واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية تعقيدًا في العالم.

بحسب تقييم أجراه الصليب الأحمر لـ240 مركزًا صحيًا وعيادة في المناطق المتضررة، فإن الغالبية منها تواجه شللًا شبه تام في تقديم الخدمات الطبية الأساسية، بسبب انقطاع سلاسل الإمداد وتعطل طرق الإغاثة، إلى جانب النقص الحاد في التمويل الدولي للقطاع الصحي في البلاد وفق ما أوردته وكالة الأنباء الألمانية.

جذور الأزمة

تعيش جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ أكثر من ربع قرن في دوامة من النزاعات المسلحة، خاصة في المناطق الشرقية الغنية بالمعادن والنادرة في الاستقرار.

ومنذ أواخر عام 2021، تصاعدت هجمات حركة "إم 23" التي تتخذ من شمال كيفو معقلًا لها، ما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من المدنيين وتدمير البنية التحتية، وفي مقدمتها المستشفيات والمراكز الصحية الريفية.

ووفق تقارير الأمم المتحدة، فإن أكثر من 7 ملايين شخص نزحوا داخليًا في الكونغو الديمقراطية حتى منتصف عام 2024، وهو رقم يُعدّ من الأعلى عالميًا، هذا النزوح الضخم ضغط على المرافق الصحية القليلة المتبقية التي تكافح لتقديم خدمات الطوارئ وسط نقص حاد في الكوادر والدواء والمعدات.

في المقابل، أدت صعوبة عبور خطوط المواجهة، كما أوضحت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إلى انقطاع المساعدات الطبية التي كانت تصل عبر الطرق الإنسانية، فالعمليات القتالية بين الجيش الكونغولي وحركة "إم 23" تمتد على نطاق جغرافي واسع، ما يعقّد الوصول إلى مناطق بأكملها، خاصة في محافظات مثل غوما وبيني وروتشورو.

انهيار الإمدادات الطبية

تُعد الإمدادات الطبية أحد أهم أعمدة العمل الإنساني في الأزمات، لكن في شرق الكونغو تحوّل تأمين الدواء إلى معركة موازية للنجاة.

فالمستشفيات التي كانت تعتمد على شحنات شهرية من المنظمات الدولية أصبحت اليوم تستقبل مساعدات غير منتظمة، في حين تعاني بعض القرى من انقطاع الإمدادات لأشهر متتالية.

ويقول العاملون في المجال الإنساني إن "المريض يموت أحيانًا ليس بسبب الرصاص، بل بسبب انعدام المضادات الحيوية أو الأمصال البسيطة"، مشيرين إلى أن الانهيار الطبي يضاعف معدلات الوفيات بين النساء والأطفال والجرحى المدنيين.

منظمة "أطباء بلا حدود" حذّرت في تقرير سابق هذا العام من أن تفشي الأمراض المعدية، مثل الكوليرا والحصبة والملاريا، في المخيمات المكتظة بالنازحين في غوما ومحيطها يشكل خطرًا إنسانيًا مضاعفًا، وتقدّر المنظمة أن معدلات سوء التغذية الحاد في بعض مناطق شمال كيفو تجاوزت 20% بين الأطفال دون الخامسة.

نقص التمويل الإنساني

إلى جانب القتال، يمثل نقص التمويل أحد أبرز الأسباب التي تدفع نحو انهيار النظام الصحي، فبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، لم يتجاوز التمويل الموجّه لخطة الاستجابة الإنسانية في الكونغو الديمقراطية عام 2024 نسبة 38% من المبالغ المطلوبة، وهو ما أدى إلى تقليص أنشطة الإغاثة الطبية والغذائية.

ويشير الصليب الأحمر إلى أن المؤسسات الصحية في المناطق الشرقية باتت تعتمد بشكل شبه كامل على دعم المنظمات الدولية غير الحكومية، بعد تراجع دور الحكومة المركزية بسبب الضغوط الاقتصادية والأمنية، لكن هذا الدعم بات مهددًا هو الآخر مع تراجع تبرعات الدول المانحة في ظل أزمات عالمية متلاحقة، مثل النزاع في أوكرانيا والحرب في غزة والأزمة السودانية.

الآثار الإنسانية

تتجاوز تداعيات الأزمة حدود الصحة العامة لتطول النسيج الاجتماعي ذاته، فحين تنهار المستشفيات يتراجع الأمن الاجتماعي، وتفقد المجتمعات المحلية ما تبقى من أدوات البقاء.

في بعض مناطق شمال كيفو، وثّقت منظمات محلية حالات ولادة في العراء بسبب غياب القابلات والمعدات الطبية، كما ازدادت وفيات الأمهات والأطفال في القرى المعزولة بنسبة تقارب 60% خلال العام الماضي.

كما أدت أزمة الدواء إلى ازدهار سوق سوداء غير خاضعة للرقابة، حيث تُباع أدوية منتهية الصلاحية أو مقلدة بأسعار باهظة، هذه الظاهرة، بحسب منظمات مراقبة، تُفاقم المشكلات الصحية وتزيد من مقاومة البكتيريا للأدوية.

مواقف المنظمات الدولية وردود الفعل الحقوقية

أعربت منظمة الصحة العالمية عن قلقها العميق من انهيار النظام الصحي في شرق الكونغو، مشيرة إلى أن استمرار القتال يُعرّض حياة الملايين للخطر.

كما دعت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أطراف النزاع إلى احترام القانون الدولي الإنساني، وضمان وصول المساعدات الطبية دون معوقات إلى المدنيين والمناطق المتضررة.

اللجنة الدولية للصليب الأحمر شدّدت في بيانها الأخير على ضرورة تأمين ممرات آمنة لتوصيل الأدوية، وذكّرت بأن القانون الدولي الإنساني يفرض على جميع الأطراف احترام المنشآت الصحية والعاملين فيها وعدم استهدافهم، معتبرة أن ما يجري يمثل خرقًا صريحًا لمبدأ حماية المدنيين.

القانون الدولي الإنساني والواجب الأخلاقي تجاه المدنيين

تؤكد اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية ضرورة حماية المرافق الصحية أثناء النزاعات المسلحة، وضمان وصول الإغاثة الطبية دون تمييز.

وتشير منظمات حقوقية إلى أن تكرار استهداف المستشفيات والمستوصفات في نورث كيفو وساوث كيفو يُعدّ انتهاكًا خطيرًا قد يرقى إلى جرائم حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

هذه الانتهاكات المتكررة تثير تساؤلات حول فعالية آليات المساءلة الدولية، في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية لمعالجة جذور الصراع الذي يغذي الانقسامات العرقية والتدخلات الإقليمية، ويحوّل المدنيين إلى ضحايا دائمين.

حرب لا تنتهي منذ عقدين

يُذكر أن شرق الكونغو الديمقراطية يشهد منذ تسعينيات القرن الماضي سلسلة نزاعات متشابكة، تداخلت فيها مصالح دول مجاورة ومجموعات مسلحة محلية، ورغم نشر بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار (MONUSCO) منذ عام 2010، فإن غياب الحلول السياسية واستمرار الصراع على الموارد المعدنية النادرة أبقيا الإقليم في حالة دائمة من اللاسلم واللاحرب.

وقد دفعت ثمن هذه الحروب المتكررة الأجيال الجديدة التي ولدت في النزوح والحرمان من التعليم والرعاية الصحية، ما يجعل الأزمة الحالية امتدادًا لمسار طويل من الإهمال الدولي والتقاعس الجماعي.

الإنسانية في اختبارها الأصعب

تضع أزمة المرافق الصحية في شرق الكونغو العالم أمام اختبار قاسٍ للإرادة الإنسانية، فبين أروقة المستشفيات المهدمة ومخيمات النازحين المكدسة، تتجسد معاناة شعب يعاني منذ عقود من النزاع والفقر والتجاهل، وتؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن الحل لا يكمن فقط في إيصال شحنات أدوية طارئة، بل في التزام دولي شامل بإعادة تمويل القطاع الصحي، وضمان احترام القانون الإنساني، ووقف القتال الذي يحرم الملايين من حقهم الأساسي في الحياة والعلاج.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية